لا سياسة ولا مجتمع ولا اقتصاد ولا أي شيء دون ثقافة
بسمة نسائية/ ثقافة وفنون
في اليوم الأول للدورة 13 لمهرجان بني عمار، شكل الاحتفاء بالبراءة ممرا لافتتاح فعاليات هذه التظاهرة الثقافية، وذلك بفتح أبواب قرية الألعاب في وجه أطفال المنطقة الذين توافدوا طيلة الثالث من مايو ومنذ الصباح على مختلف جنحتها التي حلقت بهم في سماء الفرح.
وجاور قرية الألعاب في افتتاح المهرجان، زيارة وفد المشاركين للمعرض المقام بمناسبة هذه الدورة الجديدة، والذي كان عبارة عن صناعات تقليدية ومنتجات حرفية من الدوم لبعض المستلزمات التي تعتبر أساسية في منطقة مثل قصبة بني عمار، كما كانت تلك الشجيرات الجاهزة للغرس، موضوعة بعناية في الممر المؤدي إلى دار مشيشو التي احتضنت الندوة الأولى ضمن سلسلة الندوات المبرمجة في فعاليات “فيستي باز”.
وتساوقت الندوة في موضوعها ومحورها مع قناعات جمعية إقلاع للتنمية المتكاملة، التي تضع كأولوية وهي تنظم هذا المهرجان ومختلف الأنشطة الأخرى على مدار العام، تنمية المنطقة وازدهارها وإخراجها من الهامش، وهو ما تضمنه عنوان الندوة الأولى “الجبل بين الثقافة والتنمية، المعيقات وشروط فك العزلة”.
وتوالى على منصة الندوة كل من محمد الديش وهو رئيس الائتلاف الوطني من أجل الجبل، وعبد العالي المستور منسق برنامج منتدى المواطنة ومهتم بالديناميات الاجتماعية المجالية، في حين غاب عنها المسرحي عبد الكريم برشيد لأسباب قاهرة، كما هو الحال بالنسبة للناقد والشاعر محمد الديهاجي.
“غنى الثقافة وغبن التنمية”
وتركزت مداخلة محمد الديش وهي مفتتح الندوة، حول الثقافة وارتباطها بالتنمية، واختار لها عنوان “غنى الثقافة وغبن التنمية”، حيث أكد أن الجبل عانى ولا زال يعاني، لذلك فقد آن الأوان لجعله يغادر هذا الهامش الضيق الذي يحرمه من التطور والتنمية، وتوقف المحاضر أيضا عند غنى الحضارة والتاريخ في الجبل واعتباره أحد منابع غنى وتنوع المغرب، وعند الظلم الذي يعانيه الجبل وأبناؤه، وما ينتج عن ذلك من معيقات تزيد من عزلة هذه المناطق وساق في ذلك العديد بعض النماذج.
من جهته، كانت مداخلة عبد العالي المستور، كثيفة وفيها العفوية وتدافعت الأفكار وهو يسوقها بارتجال لكن بعمق معرفي نظرا لتخصصه، وخلص إلى أنه بدون ثقافة هناك العدم، لذلك فإن لا سياسة ولا مجتمع ولا اقتصاد ولا أي شيء دون ثقافة، وكذلك هو الحال بالنسبة للتنمية، التي تعد عامل أساس وجسرا لعبور المجتمع نحو حياة أفضل، وبالتالي فإن ترابط الثقافة والتنمية يأتي من محورية الأولى وضرورية الثانية.
تكريم الشاعر والإعلامي عبد اللطيف بنيحى
في كرسي تسيير الندوة المذكورة، جلس الشاعر والإعلامي عبد اللطيف بنيحى، الذي كان محور النشاط الثاني ضمن فعاليات المهرجان، حين قرر المنظمون تكريمه والاحتفاء به، كأحد الأصدقاء الكبار لقصبة بني عمار ولمهرجانها ومختلف أنشطتها، وحضر لأجل إلقاء شهادة في حقه، الشاعر والأكاديمي مراد القادري رئيس بيت الشعر، الذي تجول بالحضور في حياة بنيحيى المهنية كإذاعي في إذاعة طنجة، ترك بصمته قوية ولامعة في أذن المستمعين من خلال برامج انتصر فيها للبسطاء وللمواضيع القريبة من نبض الناس.
كما توقف مراد القادري طويلا عند المسيرة الشعرية لعبد اللطيف بنيحى، وتحدث عن تجربته المميزة وموقعه في المشهد الشعري المغربي، وكون قصيدته تنتمي لمرحلة الفورة الإبداعية التي تجاور فيها الابداع بالنضال السياسي وخلافه من الأفكار التي أسست لوجود جيله فكريا.
مشعل اليوم الأول من مهرجان بني عمار سلمه بنيحى بتكريمه إلى الشريط المغربي الفرنسي “Les Hommes dans leur temps” الذي تم عرضه بحضور مخرجه عبد الله لزروالي، واكتشف معه الجمهور الحاضر في دار مشيشو صور حية عن حياة ساكنة قصبة بني عمار في ستينيات القرن الماضي.
الدكتور محمد بلمو الذي أشرف على تسيير العرض السينمائي والمناقشة التي تلته، قدم شكره الجزيل للمخرج عبد الله الزروالي على حضوره، هذا الأخير وقف تقديرا واحتراما بعد أن تسلم الكلمة، للجمهور الذي غصت به القاعة وتابع بشغف شريطه السينمائي.
في موعد القراءة السينمائية كان محمد البوعيادي نائب رئيس الجمعية المغربية لنقاد السينما، الذي أكد أن فيلم “Les Hommes dans leur temps” يفتح باب الذاكرة المصورة أمام سكان القصبة ليسترجعوا وجوه عاشت في زمن قريب لكنها غادرت وتركت كما جميع السلف ما يذكرها الخلف به.
وأوضح الناقد السينمائي محمد البوعيادي، أن هذا الفيلم “من بين الوثائق البصرية التي ترصد الحياة الاجتماعية لقرية بني عمار في فترة ما بعد الاستعمار (1967)، و(…) يوثّق تفاصيل الحياة اليومية للسكان بفضاءات عامة وأخرى خاصة. ”
وكشف الناقد عن مسار الحكي الذي يربط فضائين مركزيين هما مدينة فاس (منطلق الحكاية) وبني عمار (حيث تدور تقريبا كل الأحداث)، وهو الربط الذي تتم الإشارة إليه من خلال الحافلة التي تأتي من فاس وتعبر بني عمار في اتجاه مدينة القنيطرة.
وأبرز البوعيادي، أن التصوير توزع بين الفضاء العام (السويقة، البيدر، الفران العمومي، الكُتَّاب، السقاية العمومية، السوق الأسبوعي..) والفضاء الخاص (بيت أحد سكان القرية)، ويركز الناقد على أن كاميرا المخرج، جعلت المتفرج يكتشف “أبعادا كثيرة للتمدن تعكسها بجلاء ملامح السكان وملابسهم وسلوكاتهم ونظراتهم وعمران القرية ووجود الكهرباء ومكتب البريد والماء في السنبور، وتفتّح النساء واستعدادهن للوقوف أمام الكاميرا، كما تعكسها أيضا مائدة الطعام التي تشكلت من ثلاث مكونات (سلاطة، وطبق رئيسي، وفواكه).
وعلى إيقاعات تراثية أصيلة، أسدل الستار على اليوم الأول من مهرجان بني عمار، حيث أحيت فرقة السرور للموسيقى بزرهون، سهرة ألهبت حماس سكان القصبة الذين حجوا إلى المنصة الرسمية لمهرجان بمدخل القصبة حيث الملعب، ولم يثنهم البرد على المغادرة إلى بعد أن أنهت الفرقة فقرات حفلها في الهواء الطلق.
في اليوم الثاني من مهرجان بني عمار:
حفر في ثقافة الجبل واحتفاء بالكريني والزروالي يقدم “بودهوار” وموسيقى إفريقية وكناوية تسدل الستار..
مأدبة دسمة شهدها اليوم الثاني من فعاليات مهرجان بني عمار في دورته 13، تحالف فيه الفكر والتاريخ مع الادب والمسرح والموسيقى لصناعة لحظات مميزة، تمثلت في ندوة فكرية، وتوقيع كتاب ثم عرض مسرحي وفي الختام سهرة موسيقية.
انطلقت الندوة الثانية ضمن برنامج مهرجان بني عمار، وواصلت الحفر الفكري في ثقافة الجبل بمحور هام جدا وهو “حفريات في التاريخ المحلي”، استهله الباحث في تاريخ المقاومة، عبد القادر بوراس، بعرض حول “جانب من مقاومة قبائل بني عمار للتغلغل الاستعماري ما بين 1911 و1912، وقبل أن يفيض في التفاصيل كان تقدميه بورقة لسعيد سوسان، ويشارك فيها ثلة من الأسماء البارزة، وهم عبد القادر بوراس الباحث في تاريخ المقاومة، أما عالمي الآثار عبد السلام الزيزوني، ومنتصر الوكيلي فقد كان في موعد الكشف عما جادت به أبحاثهم وحفرياتهم حول “موقع (دشر الحافة) ولقاه الأثرية”، بينما أسند التسيير للأديب والقاص محمد إدارغة.
الباحث الزيزوني عرض أمام الحضور في الندوة، اكتشافات مذهلة توثق للإنسان العاقل في المغرب وكونه الأقدم في العالم، واستعرض جمجمة تعود إلى 315 ألف سنة، كما جال بالحضور في حفريات عثر عليها في منطقة بني عمار، حول تطور الكتابة بلوحات قربت الجميع من خصوصية تلك الاكتشافات وأهميتها.
المحطة الثانية ضمن برنامج اليوم الثاني، كانت مميزة جدا، وحضر فيها الابداع السير ذاتي الذي خطته أنامل الباحث والأكاديمي ابن بني عمار، الدكتور ادريس الكريني، الذي فتح الباب مشرعا على ذاكرته البريئة من خلال “طفولة بلا مطر”، التي تعتبر حفرا أدبيا في تاريخ المنطقة وثقافة الجبل من شرفة بني عمار الفسيحة.
وللاحتفاء بهذا المولود الأدبي للدكتور الكريني، حضرت نخبة من الأسماء الوازنة في مجالات الابداع والنقد، وأشرف على تسيير اللقاء، المؤلف المسرحي والسيناريست، عبد الاله بنهدار، وتوقف مليا عن خصوصية الكتاب وصاحبه والاحالات على ماض يجمع بين الأمل والألم، الكلمة بعد ذلك تناولها الناقد والقاص محمد إدارغة، وشرح بمقص الخبير في شؤون القراءات النقدية، كتاب الكريني، والتي شملت دلالات العنوان ومحور المتن وظلاله في السابق كما في الحاضر على حياة كاتبه.
من جهته، الشاعر عبد العاطي جميل، ارتدى قبعته الثانية وهي قبعة الناقد، واستعرض احالات ودلالات النص وعتباته وتوقف عند بعض مقاطعه، ولم ينس شخصيات “طفولة بلا مطر”، خاصة أنها من ذاكرتها هي أساس حاضر يعيشه الكريني وجيله من أبناء قصبة بني عمار.
مفجأة اللقاء تمثلت في حضور الفنان محمد عاطر، الذي أبى إلا أن يشارك صديقه الكريني في تقديم كتابه، كما أصر على مشاركة بني عمار عرسها المتمثل في مهرجان “فيستي باز”، كانت مساهمته عبارة عن طرفة عابرة للزمان والمكان لم تتوقف عند القصبة فقط، بل تجاوزتها إلى مدن أخرى تجول فيها ببرنامجه الإذاعي الناجح، واستعرض العديد من المواقف الساخرة والمضحكة، لكنه في الأساس استعرض نباهة وفطنة وذكاء الرجل البدوي أو كما يصطلح عليه “العروبي”، وخلص إلى القول، إنه كان يسيء لرجل البادية وهو الذي ظن أنه يقدمه في أحسن صورة.
المأدبة الدسمة لليوم الثاني لم تنته، بل بدأ شوطها الثاني في المساء، خاصة بعد حضور الفنان عبد الحق الزروالي ومعه المخرج المسرحي محمد بلهيسي، وكان عرض “بودهوار” وشارك الزروالي الخشبة مع حمار حقيقي احتفاء بهذا الكائن الخدوم جدا.
ورغم شغب الطفولة، كان العرض مميزا، وتمكن الزوالي من أن ينسجم مع الجمهور ويهديه آخر إبداعاته وهي مسرحية “بودهوار”، التي كانت كرنفال الحمير هو الدافع الأساس لإنجازها من طرف هذا الفنان المبدع.
مباشرة بعد عرض الزروالي الذي امتد من الثامنة إلى التاسعة مساء، اعتلت منصة ملعب القرب فرقة كناوة المغربية “مباري مبا”، وألهبت جنبات الملعب بنغمات كناوية بلمسة خاصة من رئيس الفرقة الذي أشرك العماريين في حفله وأهداهم ما تيسر من مقطوعات أصيلة.
السهرة نفسها، عرفت حضور البعد الافريقي بفرقة موسيقية من الكوت ديفوار، بدورها تمكنت من أن تهدي الجمهور لحظات موسيقية لا تنسى من نبع الموسيقى الافريقية الأصيلة التي تجد صداها في وجدان المغاربة عموما بحكم الامتداد في القارة السمراء التي يعتبر المغرب أحد أقطابها.
المصدر: بسمة نسائية